تاريخيا كان هنالك ذلك الارتباطِ الجدلي بين الآدابِ والفنونِ من جهة والحياةِ وقوانين تطورِها من جهة أخرى، وتقف الدراما سوسيولوجيا و انثروبولجيا في هذا المجال في مقدمة تلك الأنواع الأدبية والفنية، لذا وجب البحث و القراءة و التحليل لمضمون الأعمال الدرامية ، فالملاحظ أن الدراما تخلق من رحم الحياة بعد أنْ تكون قد احتوت بشكلها الخاص القوانين الموضوعية و المتغيرات السوسيو-ثقافية التي تتحكم في وجودها وتقدمها بحسب المجتمعات التي تنتمي إليها. وهي تعبر من خلال خصائصها النوعية والصنفية عن مستوى متطور في فهم العالم والوعي بقوانينه فهي ليست مجرد تصوير للصراع الدائر في الحياة بل تجسيد له وكشف عن جوهره مع الإضافات الجديدة التي تقدمها من خلال حلولها ومعالجاتها. ومن هنا تأتي الأهمية المتزايدة لدراسة الدراما دراسة تفصيلية متعمقة لا تقف عند مهمة الدراسات الأكاديمية المحضة بل لتكون إجابة منهجية وتحليلية لعملين صنفا ضمن أفضل الأعمال خلال شهر رمضان بتونس و هما أولاد مفيدة و النوبة.
سننطلق أولا بقراءة سلسلة أولاد مفيدة الذي يبث على قناة الحوار التونسي :
أولاد مفيدة اكتشف طاقات مفيدة :
السلسلة ليست بجديدة على المتقبل للتونسي فهذا الجزء هو الخامس لذا اكتسب جماهيرا على مر أربع سنوات و هذا ما من شأنه أن يضمن نسب مشاهدة تنتظره حتى قبل البث ، و ما يجسب لهذا العمل أن على قدر عال من إبداع الصورة و الإخراج ، إخراج هذا الجزء تجاوز الأجزاء الفارطة و هذا ما يحسب لسوسن التي رافقت سامي الاخراج على مر سنوات ، صورة ليست بنمطية، بل هي صورة حديثة تواكب ثورة التطور العالمي للإخراج.
لذا أولاد مفيدة اكتشف طاقة سوسن المفيدة في الإخراج.
أضف لذلك وجود سيناريو محبك بدرجة كبيرة و تنقل بين الاحداث بربط منهجي متين في تناسق مع تغيير المشهد و الشخصيات ، و هذا ما يؤكد أن ثنائية الإخراج و السيناريو في انسجام تام ، فضعف أحداهما قد يضعف العمل ككل.
مضمون النص يتطرّق لأهم الظواهر الإجتماعية.
و ما لاحظته من طرح للمواضيع بطريقة مباشرتية ، و هنا سأتحدث عن مواضيع في عمق المجتمع التونسي بالأساس و هي مدى تقبل المجتمع للطفل فاقد النسب ، و ما هي نظرة المحيط الإجتماعي لهاته الفئة المهمشة و المقصية إجتماعيا.
و المسألة الأخرى، هي كيف أن المراة التي انفصلت عن زوجها أو من فقدت زوجها بسبب وفاته تعيش في صدام مجتمعي كبير لتصبح في محل شبهة و تهمة إجتماعية ، فالمجتمع عبر البعض، يرفضهم و يرفض الاختلاط بهم و التعايش معهم.
كذلك مسألة الزواج التقليدي بحكم العائلة التي تتحكم في اختيارات ابناءها بتعلة أنهم (الاب و الأم) هم من يعرفون الخيار الأفضل .
صورة أخرى أتتنا عبر أولاد مفيدة ، هو أن العائلة تبقى الحاضنة الأولى للأبناء و لإحتوائهم رغم هفواتهم …
أولاد مفيدة الجزء الخامس ، كشف لنا عن مواهب و قدرات مفيدة سواء في الإخراج أو في كتابة النص و السيناريو أو في بعض الوجوه الشبابية.
لكن ما خلق نوعا من الصدام بين العمل و المشاهدين خاصة من الكبار سنا و من الأولياء هو مسب العنف داخل أولاد مفيدة ، و علينا أن نجزم أن المشكل الاساسي متمثل في مدى تنامي العنف الرمزي عبر شاشة التلفاز ووسائل التكنولوجيا الحديثة و نعني
بالعنف الرمزي (Symbolic Violation) أن يفرض المسيطرون طريقتهم في التفكير والتعبير والتصور الذي يكون أكثر ملائمة لمصالحهم، ويتجلى في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية تعتمد على الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة مثل اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني. فهو عنف نائم خفي هادئ، غير مرئي وغير محسوس حتى بالنسبة لضحاياه و هذا ما تجلى مؤخرا على مستوى الانتاج الدرامي التونسي عموما ،فتقديم صور العنف و التحرش على أنها تمثيل و تجسيد للواقع ككله جعل من المتفرج يتعايش و يتقبل هذه الصور و يقوم بتعميمها اجتماعيا و جعلها نسق و سلوك اجتماعي.
المخطر هو ان دراما رمضان تعتبر من أهم منتجي ثقافة العنف، وانها لا تساهم فقط في انتشاره بل تبرره و تزينه كذلك، و ان المتلقي يتدخل في ما هو خارجي اي يتبنى كل ما يمرر ثم يحاول اعادة انتاجه واستبطانه، اي البرمجة الذهنية لجاكوب مورينو ومفهوم «الهابيتوس» لبيار بورديو بل الاخطر من ذلك اعادة الانتاج الثقافي و صناعة ثقافة جديدة دخيلة على النسق المجتمعي التونسي و يتعارض مع الهوية العربية الاسلامية عموما.
ان عملية اعادة الانتاج الثقافي تقف وراءها منظومة اقتصادية رأس مالية بامتياز من خلال مفهوم السوق و مفهوم التسويق و الهدف الاساسي هو الربح المادي بعيدا عن الاخلاقيات و هذا يظهر عبر شركات الانتاج السمعي و البصري و الاشهار و المرابيح المادية الضخمة و لذا نؤكد عبر هذا السياق ان (حقل الاعلام ليس بمستقل بل تتحكم فيه لوبي المال و الأعمال) الذي تبقى غايتهم المردودية.
و في هاته الوضعية نتحدث عن عملية الصناعة والانتاج الثقافي التي قد تتطلب سنوات من قبل الشركات الكبرى و القنوات التلفزية من اجل بسط نفوذها و السيطرة على المشهد الاعلامي لتمرير رسائلها لجماهيرها باختلافاتهم الجنسية و الاجتماعية وحتى الثقافية و اكتسابها قاعدة شعبية لا بأس بها و تستعين هذه القنوات عبر نجوم تتم صناعتهم لكي يوجهون الرأي العام بل و يعيدون صياغة عدة مفاهيم اجتماعية.
لكن المخطر هو ان المراهقون يرون في ابطال بعض المسلسلات قدوة لهم و مثال يحتذى به و هذا ما يظهر خاصة في نسبة المتابعين لهؤلاء المشاهير في الانستغرام، و جمهور العالم الافتراضي هم انفسهم جمهور اعمالهم الدرامية، لذا يقبلون و يستحسنون عنفهم الدرامي ليصبح “عنفا جميلاً”.
الآن سنتطرّق للعمل الثاني و هو النوبة الذي يبث على قناة التاسعة:
في كل عام تتصاعد نغمة النوستالجيا المعتادة، كل الناس تتحدث عن مسلسلات الماضي السعيد و الماضي البسيط وكيف كانت قريبة من قلوبنا وعقولنا على حد سواء فيستحضر المشاهد أغلب عناوين المسلسلات و أهم الشخصيات، يساعد في تفاقم هذه النغمة اختلاف أنواع المسلسلات التي تقدم في السنوات الأخيرة، فلم تعد دراما المنزل أو ما يطلق عليه الدراما العائلية رائجة جدًا، وأصبحت الموضوعات أكثر حدة وسرعة، وأصبح طابع الإثارة والتشويق هو اسم اللعبة و أصبحت مشاهد العنف هي من تسيطر على الفعل الدرامي بتعلّة (هاك السوق شنو يحب) فمنطق الربح و التسويق ساد على عقول المنتجين.
إنَّ الناس دائمًا ما “تحن” إلى الماضي ويأخذها الحنين إلى أي زمن فات، وذلك عبر متابعة الأعمال الفنية التي ترصد أيام زمان، بـ”عاداته وتقاليده، ومشاكله، ومميزاته وعيوبه، وطريقة الكلام، والصراعات، والموضة وقتها”.
فالتونسي يفرح بمشاهدة “القديم” في العصر الحديث، والوقوف على تفاصيل الحياة في هذا الزمن، “ليس كل ما هو قديم يعد مميزًا، وليس كل ما هو جديد يعد سيئا، ولكن كل زمن له حلاوته، ولذلك المشاهدين، يكون لديهم رغبة في العبور برحلة زمنية ومعرفة ماذا كان يحدث، حتى يصلوا لمرحلة التطور التكنولوجي، والزمن الحقيقي الذي يعيشونه، لتمتزج النوستالجيا مع الواقع”.
ان بوشناق قطع مع ما تم ذكره سابقا وركب موجة الحنين –المشروعة جدًا بالمناسبة – “أن الحياة نفسها اختلفت، فلم تعد بالبساطة التي كانت تسم الحياة في التسعينيات ولا الثمانينيات، ولو نظرنا للحبكات التي تدمع عيوننا الآن تأثرًا عندما نتذكرها، لدمعت عيوننا أيضًا ولكن من فرط الضحك، فالبساطة – التي يمكنك تسميتها بالسذاجة بضمير مستريح – كانت تأسرنا تمامًا” هكذا كانت رؤية عبد الحميد للواقع الاجتماعي فبنى عليها “نوبته” التي حظيت بنسب مشاهدة مرتفعة بعيدا عن أرقام اليوتوب التي لا تمثل الجمهور الحقيقي و أعاد التجمع أمام شاشة التلفزيون بعد ان هجرها افراد العائلة.
فمحاكاة جيل التسعينات و العودة بالذاكرة لذلك الزمن و عيش النوستالجي سببها حالة القطيعة التي يعيشها التونسي اليوم مع واقعه الاجتماعي و الاقتصادي و أن النوستالجي هي استراتيجية نفسية للهروب من الحاضر و الغوص في الماضي بصوره و حكاياته و أغانيه و منوعاته و أحياءه و علاقاته الاجتماعية العميقة و البسيطة في الان نفسه.
التمثلات الاجتماعية les représentations sociales التي يستحضرها الفرد للشخصيات و للقيم و للمفاهيم ، استحضرها بوشناق في عمله عبر شخصياته كبرينقا و بابا الهادي الذين نجدهم في أغلب احياءنا الشعبية ، و كذلك الصور عن أزقة الحي و مفهوم البطحاء و الحومة و السطح … هاته الاماكن التي تصنع سوسيولوجيا اغلب العلاقات الاجتماعية في التسعينات، لذا من يشاهد النوبة يشعر بوجوده داخل احدى الشخصيات و في وسط تلك الحومة (ببخورها و ضحكتها و لحمتها …)، حتى العلاقات داخل هذا العمل ركيزتها التضامن و الحب و التعاون و التآخي ، معانٍ فُقدت حاليا في ظل مبدأ الفردانية التي سيطرت على النسيج المجتمعي.
المواضيع التي تم طرحها بالنوبة هي المواضيع التي عايشت تلك الفترة من التاريخ التونسي ، مفهوم الباندي و الكلوشار الذي يتحكم بالفضاء الاجتماعي الذي ينتمي إليه الحومة أو الحي، المؤسسة الأمنية في شخص عون الأمن و ما كان يمثله من أداة قمع و سلطة قهرية و نافذة ، علاقة التصادم و الصراع بين أبناء الاحياء الشعبية و الأمن ، ظاهرة الهجرة اللانظامية خاصة في بداية التسعينيات فترة التميز الاقتصادي لأوروبا التي تغري الشباب ، الاضطراب السياسي التي عاشته تونس و الأحداث الدموية التي يمكن أن نتناساها.
أولاد مفيدة و النوبة حققا أرقاما و نسب مشاهدة محترمة ، كلّ اعتمد خطه الخاص ، فالأول وظف الصور المتطورة و القضايا المعاصرة و الثاني اختار النوستالجيا كاستراتيجية نفسية و اجتماعية لكسب ود المشاهد .
“معاذ بن نصير باحث في علم الاجتماع ..”